Tuesday, July 23, 2013

الوطن العمانية.د.فايز الرشيد

الرحلة البيلوروسية في عهدين


سر الرسالة التي تلقاها رئيس جامعة الصداقة الروسية عن الشتات الفلسطينية

في يوم تال، أردت أن أغير نمط الجولات الداخلية في موسكو، لذا ذهبنا إلى حديقة غوركي، حيث ألعاب الأطفال الكثيرة،وفيها أيضاً ألعاب للكبار، وبخاصة الكبائن التي يركبها الناس ، والمركّبة على سكك من الحديد، والمتدرجة الصعود، والسريعة جداً في هبوطها، في مسارات متعددة أشبه ما تكون بدائرة. وكذلك العجلة الطويلة جداً (ما يزيد عن المائة متر) والمركّب عليها كبائن أيضاً، وهذه صعودها ونزولها بطيئاً،وهي غير مخيفة. وألعاب أخرى كثيرة غيرها، وحديقة غوركي مقامة على بضعة كيلومترات مربعة. أردت أن يتعرف أولادي على السكن الذي أقمت طويلاً فيه، ذهبنا بالسيارة من ميدان أكتوبر إلى شارع لينين، وقد أريت الأبناء أقدم مستشفى في موسكو، والذي يقع على الجانب الأيمن للشارع، وكنا قد درسنا فيه مادة العيون، والمعروف أن في هذا المستشفى جرى علاج نابليون بونابرت من مرض السيلان. كما قلت في نهاية الشارع، وعلى الجزء الجنوبي منه يقع السكن، وفي مواجهته بعد الشارع، يوجد مبنى كلية الطب التابعة لجامعة الصداقة، حيث درسنا فيها أول سنتين نظريتين. ذهبنا أيضاً إلى سكن معهد الطب الثاني وهو لا يبعد كثيراً عن سكني السابق، لزيارة بعض الأصدقاء. وكنا ونحن جالسون وإياهم، نتفقد ابنينا اللذين يلعبان في الممر. افتقدت بدر. . . لم أجده، وبحثت عنه في كل الطوابق، وبعد ساعة أحضره أحد الشبان العرب. . . وتبين أنه نزل في المصعد من الطابق الثاني عشر، حيث كنا إلى الأول، ولما أراد الصعود، لم يعرف في أي الطوابق نحن، إلى أن لاقاه أحد الطلبة العرب، وأخبره بدر عن اسمه، واسم الصديق الذي نزوره. في المساء ذهبنا للعشاء في مطعم لي ذكريات كثيرة فيه، وهو مطعم هافانا، الذي يقع على شارع لينين. بحكم كون هذا المطعم قريباً من السكن، كنت اذهب إليه مع الأصدقاء لتناول العشاء على الأغلب. كانت فيه فرقة موسيقية رائعة، وكان طيب الأكل. وبحكم ترددنا عليه عرفت مديريه الاثنين، اللذين يتناوبان الإشراف عليه، ومعظم النادلين فيه. عندما نذهب إليه، كانت تقدم إلينا أفضل الأطباق، وفي كثير من الأحيان، وعندما تستورد الدولة مادة البندورة وغيرها من الخضار في الشتاء. كانت توزعها على المطاعم، كنت أشتري معظم الخضار النادرة من هذا المطعم في فصل الشتاء. ورغم الطابور الطويل عليه، كنت وزملائي ندخل بلا دور، وفي كثير من الأحيان، كنا نسأل عن أشياء غير موجودة في لائحة الطعام، وكان النادلون يخبؤونها لزبائنهم، كنا ندفع سعراً أعلى بالطبع. ووصلت العلاقة إلى الحد، أنني إذا كنت لا أملك نقوداً، أذهب إليه ويصبروا عليّ أو علينا حتى اَخر الشهر. كنت وفياً في الدفع لهم. ولا أزال أذكر عاملة البار وهي تدعى أوليا بافلوفنا، وكانت عندما تسألني عن ماذا سوف أشرب؟ أطلب منها ما أريد، وفي بعض الأحيان كنت أقول لها: أريد كوكتيلاً صيفياً، ومن ثم تبدأ في الضحك. الكوكتيل الصيفي هو كلمة السر بيننا وتعني ماء، وهذا يعني أنني لا أملك نقوداً. تأتي إليّ بالماء أولاً، وهي تعرف ما أشربه في العادة. . وبعد دقائق تحضره. . وأحاسبها أيضاً في اَخر الشهر. أقول: حتى مثل هذه العلاقة (دائن ومدين) كانت تحدث في موسكو، وذلك عندما تتوفر الثقة بين الناس . عندما دخلت إلى المطعم مع زوجتي وابنينا، عرفني من بقي من النادلين. فكانت تسع سنوات قد مرت على اَخر مرة كنت فيها في هذا المطعم. لكن الفرقة تغيرت، وكان كثيرون من النادلين والنادلات جدداً. . . لكن الأكل بقي كما هو منذ سنوات. . . مميزاً. من بين المعالم في موسكو، والتي ذهبنا إليها في يوم اَخر، هي مكتبة لينين، وهي أكبر مكتبة في العالم من حيث مساحة البناء، وفي عدد ما تحتويه من كتب، وفي عدد قاعات المطالعة وغيرها من الأقسام. أذكر مرة أنه في عام 1975، وفي إحدى صالاتها، ذهبت مع بعض الأصدقاء لرؤية لوحة الموناليزا، عندما أحضرها السوفييت فترة ستة شهور لكي يشاهدها الناس في موسكو وفي عدة مدن أخرى. وأذكر يومها كم كان الطابور طويلاً إذ انتظرنا ما يقارب الثلاث ساعات حتى جاء دورنا لرؤيتها. في اليوم الأخير، ذهبنا في رحلة نهرية على قارب كبير في نهر موسكو، واستمرت الرحلة حوالي أربع ساعات. كانت مياه النهر هادئة، وكان الطقس جميلاً، وتعرّفنا على أحياء موسكو القريبة من ضفتي النهر. كان أسبوع الإجازة في موسكو قد انتهى، في اليوم التالي ودعت ليلى والولدين وهم في طريقهم إلى دمشق. عدت إلى الفندق، فكان عليّ في ظهر اليوم التالي السفر إلى مينسك، وحتى أتجنب معاناة فراقهم، خرجت عصراً من الفندق إلى حديقة قريبة. . . جلست على أحد مقاعدها، حاولت قدر الإمكان الابتعاد عن التفكير العاطفي. . . لكن شريطاً من ذكرياتي في موسكو بدأ يمر في رأسي. . . ذذككررييااتت ععنن ررححلالاتت اإٍللىى ممددنن ككثثييررةة أذكر يوم حضرنا إلى موسكو، كنّا خمسة عشر طالباً فلسطينياً مبعوثين في منح، كان ذلك في شهر أغسطس من عام 1972 . كان الصيف حاراً وكانت درجة الحرارة في موسكو 35 درجة مئوية، وكانت تلك السنة نادرة في حرارتها. وصلنا إلى المطار، وكانت الدنيا ليلاً. كانت هناك لجنة من الجامعة جاءت لاستقبالنا. وبعد ساعتين من المسير في باص محدد، وصلنا إلى السكن، وتم توزيعنا كل ثلاثة في غرفة، وزعوا علينا المفارش والأغطية. وجرى حجر صحي علينا فترة أسبوعين، كنا ممنوعين خلالها من الخروج من السكن مطلقاً، وذلك حتى إجراء الفحوص الطبية والتحاليل اللازمة للتأكد من خلونا من الأمراض .
التقينا في ذلك السكن بطلبة جدد من اَسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، جاءوا أيضاً للدراسة. وفي كل صباح كنا نذهب لتناول الفطور. ننتظم في طابور، نحمل الصحون على صينية، ويبدأون في توزيع الإفطار علينا. كان لحماً ورزاً في غالبيته، كنت أنا أتناول القهوة فقط، وكان غالبية الطلبة العرب يفعلون مثلي، فلم نتعود أكل اللحوم في الصباح. كان الانطباع الأول عن موسكو سيئاً. جاء بعض الطلبة الفلسطينيين والعرب لزيارتنا من الدارسين القدامى. كنا نتحدث معهم عند الباب، فدخولهم أيضاً كان ممنوعاً. وبدأوا في تخفيف وقع الحجر علينا. كثيرون منا فكروا في العودة، وأنا أيضاً فكرت في العودة إلى إيطاليا، حيث كنت أدرس ، وندمت كثيراً على أنني حضرت إلى موسكو. كنا نقضي الليالي في إقامة حفلات السمر والتعرف على ثقافات الشعوب الأخرى. ذكّرتني فترة الحجر الصحي بفترة السنتين اللتين قضيتهما في سجون العدو الصهيوني، في نابلس وطولكرم وبيت ليد، وفي صحراء النقب قبل إبعادي إلى الأردن. كانت بعض الملامح بين الفترتين مشتركة من حيث منع الكثير من المسائل. كنت أتساءل يومها: ألا يستطيعون اختصار مدة الحجر بأقل من أسبوعين؟ وكان باستطاعتهم طلب شهادة خلو أمراض من القادم. . . مثل دول عديدة! وكان باستطاعتهم إجراء الفحوصات بطرق أخرى! ولماذا يتصورون أن القادمين مرضى بالأمراض السارية والمعدية؟ أم هو للاطمئنان على صحة القادمين؟. انتهى الحجر، وجرى توزيعنا في سكن اَخر مخصص لطلبة السنة التحضيرية، وكذلك كل ثلاثة في غرفة: أجنبيان وطالب روسي. ما زلت أذكر كيف ذهبنا إلى الدراسة في الأول من سبتمبر، وجرى توزيعنا أيضاً وفقاً للّغة التي يتقنها الطالب، العرب مع بعض وهكذا. وكنا كل سبعة طلاب في صف واحد. جاءت معلمة اللغة الروسية وكانت تتقن الإنجليزية أيضاً، وبدأت في تعليمنا هذه اللغة الصعبة. وقبل حلول الشتاء، كان المسؤول عنا قد أخذنا إلى محل لبيع الملابس الشتوية لشرائها لنا (على حساب المعهد): بالطو ثقيل، غطاء للرأس ، بدلة شتوية، بوط طويل، قميص وجوارب شتوية وغير ذلك من لوازم الشتاء. أمضينا الفصل الأول، وانكسر حاجز اللغة. تعرفت مثل غيري على فتيات كثيرات في هذا الفصل، مما سهل حديثي باللغة الروسية. معلمة اللغة الروسية، كان اسمها جالينا الكسندروفنا سوتشكوفا، وكانت غاية في الجمال، متزوجة ولها ابن صغير. وكانت غاية في اللطف والتعامل الجيد، كانت تخفف عنا عبء المشاكل الكثيرة التي كنا نصادفها، كانت مثل أخت كبيرة للجميع. كنا نتبارز مع الطلبة العرب الاَخرين في صفوف أخرى، بالحديث بالروسية، للدلالة على أي المعلمات أفضل في التدريس . واذكر أنها قرأت قصة علينا، وطلبت منا صياغتها بالروسية في اليوم التالي. ومختصر القصة: أن أماً قتلت ابنها لأنه كان يتعامل مع الأعداء جاسوساً لهم. وفي مرة أخرى قصة أخرى (لغوركي) عن شاب غجري أحب أجمل فتيات قبيلة ثانية من الغجر، وأراد الزواج بها، لكنها اشترطت عليه أن ينحني لها أمام القبيلتين، ولأنه يحبها وافق على الشرط، وعندما جاء التنفيذ، انحنى لها، وفجأة تناول خنجره وقتلها ثم قتل نفسه. في المرتين، نلت جائزتين عن صياغتي لهما، باعتباري أفضل من صاغهما، وبعد عشر سنوات عندما التقيت معلمة اللغة الروسية، وقد كنت مع صديقي وكانت هي وزوجها، في أحد فنادق يالطة، أخبرتني أن القصتين ما زالتا محفوظتين في قسم اللغة الروسية في الكلية التحضيرية. بعد إنهاء الفصل الأول، أرسلنا المعهد للاستراحة في مشتى بالقرب من موسكو لمدة أسبوعين، ومقابل مبلغ زهيد. في كثير من أيام الأحد، كانت الكلية تنظم لنا رحلات داخلية مع المعلمات باعتبارهن المسؤولات عنا، إضافة إلى مسؤول روسي معيّن عن طلبة كل بلد، كانت الرحلات تتم لزيارة معالم موسكو وضواحيها وغيرها من المدن القريبة. زرنا قرية غوركي بالقرب من موسكو، حيث كان يستريح ويعالج قائد ثورة أكتوبر، فلاديمير لينين. دخلنا شقته، ورأينا الطاولة التي كان يكتب عليها، ورأينا غرفته مع زوجته ناديجدا كروبسكايا. وزرنا الغرفة التي مات فيها، ورأينا الساعة والأدوات في شقته، والأقلام التي كان يكتب فيها. وكنا قبلها ببضعة أيام قد حضرنا لقاءً نظمته الكلية لابنة أخ لينين، وكانت هي القريبة الوحيدة المتبقية من عائلة أوليانوف، وكان عمرها يزيد عن السبعين عاماً حينها، وتحدثت مدة ساعتين عن عائلتها وعن لينين، وكانت صبية صغيرة في حياته. ما زلت أذكر وقبل نهاية السنة، كيف اختارتني الكلية لعرافة حفل يقيمه طلبة التحضيري من كافة القارات احتفاءً بانتهاء السنة وشكراً للكلية، وكان عليّ أن أحفظ الكثير من النصوص المكتوبة والمفروض قراءتها قبل كل فقرة. انتهت السنة التحضيرية، وأرسلتنا الجامعة في رحلة لمدة ثلاثة أسابيع في منتجع بالقرب من يالطة (وقد تحدثت عن ذلك في موضع سابق). وفي الشهر الثاني من العطلة سجلت مع صديق لي يدعى ماهر، في فريق للعمل سيذهب إلى جمهورية مولدافيا بالقرب من عاصمتها كيشينيوف. سافرنا، واشتغلنا في مزرعة نجمع الخضار، مقابل الأكل والنوم وراتب شهري لا يتجاوز الخمسين روبلاً. وكنت وصديقي لا نملك سوى عشر روبلات مع كل منا. كنا نقتسم السيجارة الواحدة من أجل التوفير. في يوم العطلة كنا نذهب للسباحة في النهر القريب، وعصراً نذهب لتذوق النبيذ في القرية القريبة. ففي الريف المولدافي توجد عادة، وهي تذوق النبيذ قبل شرائه، وللتذوق يصبون في العادة كأساً. كانوا يضعون على أبواب بيوتهم طاولات وكراسي من أجل الجلوس ، ويضعون كاسات فارغة ومازةً من الخضار بانتظار من يأتي ليشتري من النبيذ البيتي الذي يصنعونه، ولما كنت وماهر من دون فلوس ، كنا نتذوق النبيذ في عدة بيوت! ! بالطبع دون أن ندفع شيئاً! ! كيشينيوف مدينة جميلة مشهورة بالزهور التي تملؤ حدائقها، حتى الناس يزرعونها في بلكونات بيوتهم، والمولدافيون شعب ودود، ولغتهم قريبة من اللغتين اللاتينية والإيطالية، وفي مولدافيا قضينا شهراً بالمجان مقابل عملٍ بسيط، ولو أن الراتب كان قليلاً. وقبل بداية السنة الجامعية الأولى، جرى توزيعنا أيضاً في السكن المخصص لدارسي الطب وأيضاً كل ثلاثة في غرفة، وكان نصيبي في هذه المرة طالب فلسطيني (تبادل السكن مع طالب هندي) واَخر روسي. الزميلان الفلسطيني والروسي كانا يحبان الشرب ويجلسان طويلاً يشربا كل يومٍ تقريباً. حتى أنني وفي إحدى المرات، جئت إلى الغرفة، فإذا كل شيء فيها مقلوب، الكاسات مكسورة، وزجاجها على الأرض ، والطاولة وسخة، والأواني والطناجر القليلة الموجودة لدينا، منتشرة في زوايا الغرفة، وهما غير موجودين. بدأت حملة التنظيف وترتيب الغرفة دون أن أتكلم شيئاً، واستغرق معي التنظيف ساعتين، وزميلاي لم يبيتا يومها في الغرفة، وكما أفهماني فيما بعد تجنباً لمشكلة. كان يعز علي أيضاً أن يكون زميلي الفلسطيني مقصراً في دراسته. لقد جرى انتخابي مسؤولاً عن اللجنة الدراسية في اتحاد الطلبة في كلية الطب، كنت أشارك في اجتماعات اللجنة المؤلفة من عميد الكلية، ومسؤول شؤون الطلبة، ومندوبين عن الحزب والكومسومول لمناقشة أمور الطلبة المقصرين في دراستهم. كنت باستمرار أجد الأعذار للطلبة: عامل اللغة والابتعاد عن الأهل، وأسباب أخرى غيرها. طيلة السنة التي كنت مسؤولاً فيها عن هذه اللجنة، كنا نعطي فرصاً أخرى للطلبة كي يصلحوا من أوضاعهم الدراسية. لكن البعض للأسف، بمن فيهم زميلنا الفلسطيني، أخذوا بالانقطاع عن الدوام وكان من بينهم أيضاً طلبة روس ، ولذلك أخذت الكلية قرارات بفصلهم، والطلبة الأجانب بينهم عادوا إلى بلدانهم. كانت السنة الأولى صعبة في كلية الطب، وابتدأنا مادة التشريح، وكانت أستاذة هذه المادة للصف الذي أدرس فيه: فيرا أيفانوفنا تجمع ما بين ملامح الذكر والأنثى، في الدرس الأول كنت محتاراً هل هي رجل أم امرأة؟بعض الطلبة ممن لم يحتملوا رؤية الجثث في حصص التشريح، سارعوا إلى التحويل من كلية الطب إلى فروع دراسية أخرى. ما زلت اذكر قبل نهاية السنة الجامعية الأولى، كيف كتبت طلباً مؤثراً، لنائب رئيس جامعة الصداقة ''الكسيروف'' وهو من جمهورية أذربيجان، من أجل السماح لأخي أمين، الذي كان يعمل معلماً للغة الإنكليزية في الكويت، بزيارتي في موسكو. كتبت في الطلب عن أوضاع تشرد العائلات الفلسطينية، فتأثر نائب الرئيس واستدعاني لمقابلته ووافق على طلبي، لكنه وبشكل لطيف طلب مني أن يحضر أخي معه ساعة لابنه، وهذا ما حصل. التقينا به مرّة أخرى، ووافق على فيزا لكلينا للقيام في جولة سياحية على بعض المدن: لينينغراد، كييف، خيرسون (في أوكرانيا) وريغا عاصمة جمهورية لاتفيا على بحر البلطيق. مازلت أذكر، كيف ذهبنا إلى خيرسون، وهي بلدة صغيرة تبعد عن كييف حوالي ساعة بالطائرة، لزيارة أصدقاء تعرفنا عليهم في موسكو، وكيف استقبلونا في بيوتهم، في خيرسون الوادعة نهر صغير، كنا نذهب إليه للسباحة. في ريغا تحس بالناس مختلفين، وكأننا كنا خارج الاتحاد السوفيتي، فلا حديث عن الاشتراكية، ولا من شعارات عن الحزب والدولة في كل شارع. زرنا أماكن ريغا الأثرية، وبخاصة كنائسها وحاراتها القديمة، وبحرها، وكانت رحلة ممتعة بالفعل. . وقال أخي بعد عودته إلى الكويت بأن رحلته إلى روسيا كانت رحلة العمر بالنسبة إليه. استطعت من علاقتي الجيدة مع نائب رئيس الجامعة، تحويل فتاة لبنانية وهي زوجة صديق فلسطيني من كلية الزراعة التي قُبلت فيها إلى كلية الطب. وهي الاَن طبيبة مشهورة تابعت تخصصها في الأمراض النسائية والتوليد في موسكو، ولها عيادة في الضاحية الجنوبية من بيروت. . . كان ذلك في الوقت الذي لم يسمح فيه لزميلها المتفوق من نفس الكلية في التحويل إلى كلية الطب، بالرغم من الطلبات المتكررة لمنظمة الحزب الشيوعي العراقي في الاتحاد السوفيتي لتحويله من قبل نائب الرئيس ! المهم أن ''اليكسيروف'' جرى كشفه وطرده من الجامعة، فكان يطلب وبلسانه من الطلبة الأجانب إحضار هدايا له بعد سفرهم. أثناء وجودي في موسكو زرت مدينة سوزدال بالقرب منها، وتأثرت كثيراً بكنائسها الكثيرة وطابعها المعماري الرائع، وزرت أيضاً مدينة أخرى تدعى ''كالوجا'' للالتقاء بفتيات فلسطينيات جرى إرسالهن من قبل الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية لتعلم فنّ الخياطة. زرت أيضاً مينسك لمدة يومين للالتقاء مع الطلبة الفلسطينيين الدارسين هناك، ولم تثر المدينة إعجابي يومها وكان ذلك في عام 1975 .
من بين الزيارات التي أذكرها أيضاً، زيارتي إلى بولندا. وقد دعتني لزيارتها فتاة بولندية كانت تدرس في مدينة اوديسة والتقيت بها في موسكو. زرتها في بيت أهلها في مدينة تسمى (سكفيرجينا) تقع على الحدود البولندية - الألمانية. مدينة وادعة، هادئة، جميلة، خضراء، صغيرة، أكثر ما لفت نظري فيها وبالقرب منها حيّ راق (للنوّر)، والغريب أنه على جوانب بعض القصور والفلل الشاهقة العديدة فيها، تنتصب خيام، يجتمعون فيها. . . المنظر كان سوريالياً. . . ولما سألت مضيفتي: ولماذا ينصبون الخيم؟ أجابت بأنه تقليد نوري، حتى لا تنسيهم البيوت الشاهقة أصولهم، وهي دليل أيضاً على تمسكهم بعاداتهم. مكثت في سكفيرجينا بضعة أيام وفي طريق العودة مررت ليوم واحد على مدينة وارسو العاصمة، ذكرّتني بمدينة صوفيا البلغارية عندما ذهبنا إليها وزوجتي في شهر العسل وبقينا فيها أسبوعين، وكان ذلك في شهر مايو من عام 1982 وقبل الاعتداء الإسرائيلي على لبنان. المدينتان لهما طابع متشابه، يأتلف مع المدن السوفيتية، وفيهما الكثير من المباني والأحياء التي أشرف على بنائها الروس ، ولكن في وارسو، فإن جميع من اختلطت بهم، كانوا لا يكنون المودة للروس ، على العكس من البلغار، الذين يعترفون بإيجابيات علاقتهم مع روسيا.
في وارسو بضع مبان شبيهة تماماً بمثيلاتها في موسكو: مثل مبنى وزارة الخارجية الروسية، وجامعة موسكو وخمس بنايات أخرى لها طابع معماري مختلف عما هو سائد في المدينتين. ويقال أن هذه المباني شُيّدت في عهد ستالين، وعمل فيها الأسرى الألمان لدى روسيا في تلك المرحلة، كذلك هم من قاموا ببنائها في وارسو. كثير من مباني وأحياء وارسو تهدم في الحرب العالمية الثانية، أثناء الاحتلال النازي لها، وجرى إعادة بنائها بعد تلك الحرب. في رحلة العودة لزمني تغيير القطار في مدينة بريست البيلوروسية. ولما كان علي الانتظار بضع ساعات، ذهبت في سيارة وانطلقت إلى قلعة بريست، ذات المعركة المشهورة في الحرب العالمية الثانية. فقد أصرّ المدافعون عنها أن يحولوا دون دخول الألمان إليها. وصمدوا عدة أيام وبأسلحة بسيطة أمام هجمات القوات النازية التي دخلتها بعد أن قتل المدافعون عنها جميعاً. معركة قلعة بريست تشبه تماماً معركة قلعة الشقيف في الجنوب اللبناني، والتي صمدت أمام القوات الإسرائيلية بضعة أيام، ولم تدخلها القوات الغازية إلا بعد استشهاد المدافعين عنها. في القطار وفي رحلة العودة من بريست إلى موسكو، ركب ضبّاط وجنود، عرفت فيما بعد أنهم من الجيش السوفيتي الذي يخدم في ألمانيا الديموقراطية، خصصت لهم أماكن في عربات معينة، لكنهم أثاروا ضجيجاً في كل القطار، وبدأوا في التنقل بين عرباته وفي المطعم أيضاً، وكان من بينهم الكثيرون من السكارى.
جلس أحد قادتهم إلى الكرسي المقابل لي، على طاولة في المطعم. ولما عرف أنني فلسطيني، استغرب كيف لا يستطيع العرب معاً أن يهزموا إسرائيل! استعرضت من الأحداث التي مرت بي في موسكو، زيارتي إلى مدينة باكو، عاصمة أذربيجان ورائحتها المميزة، فما إن بدأت في النزول من سلّم الطائرة، حتى شممت رائحة النفط، فأذربيجان مشهورة بإنتاجها للنفط. أحسست بالقرب الشديد من الشعب الأذربيجاني، معظمه مسلم، وهم يحبون العرب والمسلمين. أصدقائي من الشباب الفلسطيني، الدارسين في باكو، والذين كنت في زيارتهم بمهمة تنظيمية، طافوا بي كل أنحاء المدينة وبخاصة وسطها المشهور بمبانيه القديمة وأزقته، وفيه تشعر أنك في بلدة عربية بالتمام والكمال، حتى مطاعم هذا الجزء، خالية من الكراسي، فيجلس الزبائن متربعين على فراش عالٍ بعض الشيء، متكئين على المساند أمام طاولة صغيرة مستديرة يوضع عليها ما يجري تقديمه من الطعام، حيث تشعر أنك في بيتك. أحببت الأكل الأذربيجاني، والذي في معظمه يشبه الأكل العربي. ظلت رحلة باكو محببة إلى نفسي عندما أستذكر أحداثها. بعد إنهائي للسنة الدراسية الجامعية الرابعة، أحببت السفر إلى القفقاس عندما عرضت علي إحدى طبيبات الجامعة، وكنت قد شكوت لها من اَلام دائمة في معدتي، الذهاب إلى منتجع في القفقاس ويسمى ''منتجع المياه المعدنية'' لمدة ثلاثة أسابيع فهذا المنتجع مشهور بمياهه المعدنية التي تعمل على شفاء الجهاز الهضمي. المنتجع يقع بالقرب من بلدة تحمل نفس الاسم، ابنيتها منتشرة على الجبال، وسط الأشجار الكثيفة الخضراء والزهور والنباتات الجميلة. كنا نقضي فترة حقيقية من الراحة والاستجمام، بالقيام برحلات في القفقاس ، ومنها رحلة إلى منتجع قريب، كان صديقي وزميل دراستي يُعالج فيه، هذا الزميل توفي في الأردن منذ بضع سنوات إثر حادث سيارة مؤسف على طريق مطار الملكة علياء في عمان. قضيت وهذا الزميل ساعات جميلة عندما كنا نتبادل الزيارات في المنتجعين. أما في الليل، فقد كانت تنصب في الساحة الرئيسية في البلدة حلقات الرقص وتظل حتى ساعة متأخرة. وكان الحاضرون يأتون للراحة من كل أنحاء الاتحاد السوفياتي، وكم كان سهلاً عقد الصداقات وبخاصة مع الفتيات. من بين المناطق التي زرتها في القفقاس ، موقع يسمى تل الخيانة، صعدنا (وكنا في رحلة جماعية) على رأس جبل يشرف على وادٍ سحيق، وأخبرتنا دليلتنا السياحية. . . كيف أن فتاة جميلة ابنة أمير من أمراء المنطقة أحبّت شاباً في الزمن الغابر، وكان هذا الشاب فقيراً، والد الفتاة رفض تزويجها له، عندما جاء يطلب يدها بسبب فقره. اتفق الشاب والفتاة على أن يتوحدا معاً في الحياة الأخرى، فقررا الانتحار، قفز الشاب في البداية ومات، وعندما رأته الفتاة جثة هامدة خافت ولم تقفز. . . ولذلك يطلقون على ذلك المكان، اسم (تل الخيانة).
زرنا أيضاً مناطق كثيرة في القفقاس من بينها غابات، ومناطق جبلية، وبحيرة ترتفع عن سطح البحر مئات الأمتار (وهي غير البحيرة القريبة من يالطا، والتي كتبت عنها في موضع سابق).
من كثرة جمال وسحر الطبيعة ونقاء الهواء والتضاريس المتنوعة التي تتمتع بها منطقة القفقاس ، كان من الطبيعي أن ترى معمرين هناك، فالقفقاس هو قطعة من الجنة. ولقد روت لنا الدليلة السياحية حادثة طريفة: سئل معمر في سن المائة وعشر سنوات، وزوجته المعمرة وكانت تبلغ مائة عام عن السرّ في تعميرهما كل هذه المدة؟ أجاب الزوج: عندما تزوجنا وكان ذلك قبل ثمانين عاماً، اتفقت وزوجتي على أننا إذا اختلفنا معاً، فعلى كل واحد منا أن يصعد جبلاً مختلفاً، ولذلك عمّرنا طوال هذه المدة. كان يقصد أنهما على الدوام كانا مختلفين. رحلة القفقاس هي أيضاً رحلة من العمر، وستبقى في ذاكرتي ما حييت. من بين ما أذكره أيضاً من حياتي في موسكو، هو جو الود والتعاون بين الطلبة العرب الدارسين، التعاون كان يشمل مختلف المناحي، التعاون في مجال الدراسة، والحرص على الاَخر وبخاصة إذا لم يكن يملك المال. كانوا يعطوننا منحاً شهرية تقدر بثمانين روبلاً (وهي تقدر بمائة دولار بالسعر الرسمي وعشرين دولاراً بسعر السوق السوداء) وكان الأهلون يمدون أبناءهم بما قيمته ثلاثين دولاراً شهرياً، وكان هذا المبلغ يكفي لحياة معقولة للطالب. وكان بعض الطلبة يعيشون على المنحة فقط، ويوفرون منها قيمة تذاكر السفر لزيارة بلدانهم في الإجازات. كنا لا ندفع أجرة السكن. أماكن كثيرة كانت تجمع الطلبة العرب، منها: النادي العراقي، الذي كنا نذهب إليه في بعض أوقات الفراغ للعشاء فيه، للذة الأكل فيه، ولرؤية الكثيرين من الطلبة. ومن بين الأماكن أيضاً: المقاصف في البنايات المختلفة لسكن الطلبة، فعلى كل طاولة منها، كنت تجد الكثيرين من الطلبة العرب، يجلسون ويناقشون مواضيع مختلفة. طيلة فترة دراستي سافرت إلى عمّان، بضع مرات في الإجازة. كما سافرت إلى بيروت وإلى ليبيا وإلى زيارة أخي أمين في الكويت. كان الاقتراض المالي بين الطلبة مسألة طبيعية، وكنا نقترض أشياء عينيّة ومنها مواد الأكل إذا لم يجد أحدنا شيئاً يأكله في المساء. عرفت طلبة كثيرين من البحرين وعمان واليمن والسودان وسوريا ولبنان والعراق وغيرها، وكذلك من مختلف أنحاء العالم من اَسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. ما يحضرني أيضاً هو طالب هندي، كان بارعاً في معرفة تاريخ الميلاد باليوم والشهر والسنة، بمجرد نظره إلى كف من يسأله. كان المطبخ المشترك يعج برائحة البهارات الهندية، عندما يحضّر الطلبة الهنود أكلهم، وكان البعض يسطو على أكلات غيره في بعض الأحيان. كنا نعيش أجواءً طلابية حقيقية، بسيطة، ولذيذة، عندما يتذكرها الطالب بعد سنوات على تخرجه. ويسرح ذهني في لوحة ذكرياته، إلى صيف عام 1979، عندما تخرّجنا، وأذكر عندما ذهبت لأقدم أخر امتحان في الكلية، ونظام الامتحانات في روسيا، يعتمد على توزيع المادة المقررة في الامتحان، على أربعين أو خمسين ورقة أسئلة تسمى (بيلييت)، وكل ورقة تحوي ثلاثة أسئلة أو أكثر، وتقلب الأوراق على ظهورها وتوضع على الطاولة. يأتي الطالب ليسحب واحداً منها، ثم يجلس فترة لتحضير الأجوبة، ومن ثم يذهب إلى لجنة للإجابة. كانت العلامات تحسب من خمس درجات: 5 تعني ممتاز، 4 تعني جيد جداً أو جيد، 3 تعني مقبول، وما دون ذلك يتوجب إعادة إجراء الامتحان. أتذكر كيف قدمت الامتحان الأخير، ونلت فيه 5 درجات، وبعد ذلك عدت إلى السكن، وفي طريقي إليه استعرضت السبع سنوات التي مرت وكأنها مثل لمح البصر. وتذكرت حينها كيف أمضيت يومي الأول في الكلية التحضيرية، وكيف سألت نفسي يومها: كيف سأصبر فترة السبع سنين. . . لكنها مرت وبذكريات جميلة. لقد نظمت لنا الجامعة حفلاً للتخرج، وسلم عميد الكلية كل طالب دبلوم التخرج، وما زلت أذكر توصياته الكثيرة للخريجين. وفي المساء نظم لنا حفل عشاء، وبعد ذلك بفترة سافرت إلى بيروت ومن ثم إلى عمان لتبدأ مرحلة جديدة، وهي العمل.
استعرضت هذا الشريط وأنا جالس في الحديقة، كان المساء قد حلّ، وكانت نسمات الهواء الباردة قد بدأت في مداعبة جسدي. لم أشأ أن أظل وحدي كي أبتعد عن مناطق الحزن في نفسي، والتي خلّفها سفر زوجتي وأبنائي. اتصلت بصديق حميم وذهبنا للعشاء في أحد المطاعم، وبعد إقفاله في الحادية عشرة ذهبنا إلى فندق الأنتوريست وفيه مقهى يظل حتى الرابعة صباحاً، وأسعاره بالدولار وهو مفتوح خصيصاً للأجانب، وهو غالباً ما كان مراقباً من السلطات السوفيتية. إنه المحل الوحيد في موسكو الذي يظل مفتوحاً حتى ساعة متأخرة من الليل. في موسكو أيضاً توجد بضع أسواق مخصصة للأجانب، والأسعار فيها بالدولار، وبضائعها تستورد من الخارج إضافة إلى البضائع الروسية المميزة، والتي لم تكن توجد في الأسواق العادية. كان علي ظهر اليوم التالي، الذهاب إلى المطار، لأستقل الطائرة التي ستقلني إلى مينسك. في عام 1989، بدأت الأحداث السياسية تتداعى بسرعة، فالحركات الشعبية في جمهوريات البلطيق أخذت تتنامى. . . التظاهرات والاعتصامات شبه يومية، وكذلك الاحتجاجات على وجود الروس . من ناحية أخرى. . . البضائع في مينسك بدأت تقل تدريجياً. أما الحركة السياسية فقد بدأت بالتنامي أيضاً، من حيث النقد لأوضاع الركود السائدة، وفي التحضير للمستقبل، وفي الحديث أيضاً عن ماَسي تشيرنوبل. لقد جرى ترقية مسؤول إلى وزير للصحة في بيلوروسيا. وأصبح حضوره إلى الكافيدرا قليلاً، كان كثير السفر. وفي مرّات كثيرة، كنت مضطراً للذهاب إليه في الوزارة لمراجعة أوراق اكتبها من الأطروحة، فبرغم وجود مسؤول ثانٍ لي، إلا أنه يظل الأول، الذي عليه توجيهي ونقدي. في هذا العام. . . كان علي إنجاز تجربة عملية تستغرق شهرين، وكانت تتلخص في إعطاء الأرانب والقرود دواءً مشعاً ومن ثم إجراء العلاج الطبيعي لها، وبعد ذلك يجري قياس مدى امتلاء أنسجتها بالدواء. كنت أختبر قدرة هذا النوع من العلاج الطبيعي وهو ال (التأين) على مركزة الأدوية في الأنسجة المراد تركيزها فيها.
كان عليّ أيضاً كتابة ثلاث مقالات علمية، ونشرها في المجلة الصحية المركزية لبيلوروسيا، واسمها (الصحة). استعضت عن مراجعة مقالاتي من قبل مسؤولي الأول بمسؤولي الثاني، وهو رئيس قسم أمراض الجهاز الهضمي، الذي ساعدني كثيراً على مراجعة وتدقيق تلك المقالات، التي نشرت في تلك المجلة الشهرية على مدار سنة. استمر عملي على طابعه، ولكن بوتائر أسرع، إذ بدأت ألمس بداية النتائج الإيجابية لبحثي في شفاء المرضى، الذين كنت أعالجهم بطريقتي. . . وكان ذلك أيضاً يعمل على تحفيزي في العمل

No comments:

Post a Comment