الرحلة البيلوروسية في عهدين
يهود بيلوروسيا طلبوا السماح بهجرتهم إلى إسرائيل رغم
تقلدهم أرفع المناصب بدعم من قوى غير معلنة |
oo o في نهاية الثمانينات، بدأ كثير من البيلوروس تغيير أسمائهم فجأة (والقوانين في الاتحاد السوفياتي كانت تتيح تغيير الاسم) فالذي كان اسمه ايفان تحول إلى أبراهام، ومن كان اسمه الكسندر أصبح حاييما. . . الذي تبين: أن اليهود البيلوروس كانوا في معظمهم يتخذون أسماءً روسية لإبعاد الأنظار عن يهوديتهم، وبعد الانفتاح أصبحوا يفاخرون بها، ويطالبون بسماح هجرتهم إلى إسرائيل في تلك السنوات، ذهلت فعلاً للمواقع التي كانوا يتسلمونها، ففي المستشفى المركزي لبيلوروسيا حيث كنت أعمل، كانوا يتسلمون المواقع المفصلية فيه، وقس على ذلك في مؤسسات كثيرة! وأذكر أنني حينها كنت أمر في دورة دراسية عن الوخز بالإبر الصينية، وطلبت مني الأستاذة أن أتكلم عن القضية الفلسطينية في محاضرة للدارسين معي، وكانوا من كل جمهوريات الاتحاد السوفياتي، تطرقت في المحاضرة إلى الإرهاب الإسرائيلي. . . انزعج البعض من المستمعين، وابتدأوا في مقاطعتي، والحديث عن (الإرهاب) العربي والفلسطيني- صعقت يومها، فلم يخطر ببالي أنني في الاتحاد السوفياتي، بل في دولة معادية- تبين فيما بعد أن هؤلاء كانوا يهوداً دون أن أكتشفهم! معنى ذلك أن هناك قوى صهيونية منظمة كانت تعمل بالسر في الاتحاد السوفياتي وفي داخل الحزب نفسه، قوى يمينية أخرى استغلت الظروف الجديدة لتخريب الاتحاد السوفياتي فأكثر من (50) إذاعة اميركية وأوروبية كانت تبث سمومها في برامج موجهة إلى المواطنين السوفييت. قوى شعبية كثيرة في جمهوريات مختلفة من تلك التي تدخل في الاتحاد السوفياتي استغلت الواقع الجديد من أجل المطالبة بالانفصال، وأبرز ممثلي هذه الظاهرة كانت جمهوريات البلطيق وهي: لاتفيا، ليتوانيا وأستونيا فشوارع هذه الجمهوريات كانت تشهد مظاهرات يومية واعتصامات من أجل المطالبة بالانفصال . غورباتشوف، الذي كان يمتدح من الولايات المتحدة والغرب كلّ يوم، باعتباره المخلص والمنقذ وحامي حقوق الإنسان في الاتحاد السوفياتي كان يصدق ذلك، ولم يكن باستطاعته أن يفعل شيئاً في مواجهة هذه القوى وذلك في محاولة للحفاظ على كاريزماه الشخصية، فهو من جهة لا يستطيع منع هذه الظواهر من خلال القوة، ومن جهة أخرى أصبح لا يستطيع العدول عما طرحه، وتنازلاته التدريجية أخذت في الذهاب بعيداً بشكل أصبح فيه متورطاً بشكل كبير، وبدأ في الاستجابة للضغوطات الأميركية والغربية عموماً من أجل السماح ليهود الاتحاد السوفياتي بالهجرة إلى إسرائيل (فمن قبل كانت توجد بعض التعقيدات على سفرهم) وبالفعل، فإن بدايات هجرة المليون يهودي إلى إسرائيل بدأت في نهاية الثمانينات واستمرت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. الضغوطات الداخلية، وحتى من داخل الحزب نفسه بدأت في ترك تأثيراتها على غورباتشوف، الذي اضطر في عام 1988 إلى إلغاء تدريس (تاريخ الحزب) في المدارس ، وإلغاء مواد الفلسفة والاقتصاد السياسي، والشيوعية العلمية في الجامعات باعتبارها مواداً ضرورية يتوجب النجاح فيها لكل من يكمل تعليمه الجامعي للحصول على الدكتوراة في الطب أو الهندسة أو غيرهما من الفروع الأخرى . النقلة كانت كبيرة في التدريس بين مرحلتين، الأولى يجري تدريس تاريخ الحزب فيها، وتاريخ الحرب الوطنية العظمى (الحرب العالمية الثانية) والتثقيف الأممي ومساندة الشعوب المظلومة وحب الاَخرين وامتدت هذه المرحلة لما يقارب السبعين عاماً، وبين مرحلة أخرى انقطع فيها الطلاب عن مثل هذا التثقيف، وأذكر إحدى الزميلات من الطبيبات العاملات معي وهي تلخص المرحلة الجديدة من خلال القول: إن الطلاب الاَن يقعون في مرحلة من الانفصام بين ثقافة الأمس ومرحلة الخواء الجديدة. الشعور الديني لدى الناس بدأ في الازدياد بشكل كبير، فأخذت الكنائس تمتلئ بهم في أيام الأحد وفي كل المناسبات الدينية، وصار من الطبيعي أن ترى الصلبان معلقة في أعناق كثيرين، ولم تكن هذه الظاهرة موجودة من قبل. ومع مرور السنوات بدأت الأمور في التفاقم سريعاً، فبدلاً من مضاعفة دخل الاتحاد السوفيتي مرتين، انتشر التسيب في كل المجالات، قل الانتاج الزراعي والصناعي، وبدأت البضائع والسلع تختفي من المحلات أولاً بأول، فإذا أردت أن تشتري شيئاً ولو بسيطاً عليك شراؤه من تحت الطاولة وبأسعار السوق السوداء، وبدأت الطوابير على البضائع والسلع تكبر يوماً بعد يوم، وانخفض الإنتاج بمعدلات ملموسة ترتفع شهراً بعد شهر، وانتشرت السرقات، وبدأ التجمع في مافيات للإشراف على بيع كل البضائع، فالكل أراد الاغتناء في لمح البصر. ورغم كل تلك المقدمات لم أقتنع يوماً بإمكانية انهيار الاتحاد السوفياتي بالطريقة التي تم بها، كنت أؤمن بأن وجود الاتحاد السوفياتي بكافة جمهورياته يعتبر خطاً أحمر، لن تسمح الدولة السوفياتية بالعبث في هذا الوجود . كنت أعتقد أيضاً بأن الحزبين والكومسوموليين وحدهم وهم يعدون ب (18) مليون شيوعي و (40) مليون كومسومولي سيدافعون عن وجود الاتحاد السوفياتي بكل قواهم، فمهما بلغ حجم الانتهازيين بينهم لن يبلغ ما نسبته 25%-30%، مما يعني أن النسبة الباقية ستدافع عن وجود حزبها ونظامها كنت أعتقد أن الرئيس غورباتشوف وهو أحد اثنين يرأسان القوتين الأعظم في العالم، لن يفرط ولو بشكل شخصي بزعامته. . . ولكن خابت كل هذه التوقعات . أما بالنسبة لأسباب الانهيار وكما أراها فيمكن تلخيصها بالاَتي: لقد تعامل الحزب الشيوعي مع النظرية الماركسية- عقيدته- وكأنها شئ صخري جامد لا يتطور، ولا يخضع لتغير العصر، فتم إهمال الجانب الروحي في الإنسان وتوقه الطبيعي إلى أشياء كثيرة منها: حرية التعبير عن الرأي والشعور بالحرية، وأهمية الملكية الخاصة. كما أن الحزب والكومسومول كانا مرتعاً لانضمام الكثير من الانتهازيين اليهما، الذين لا يؤمنون بالعقيدة الاشتراكية ووضع الحزب بينه وبين الناس أسلاكاً شائكة وجدراناً عالية، فهو وبدلاً من إلغاء الطبقات في المجتمع أصبح طبقة مميزة عن كل فئات المجتمع، وازدادت الهوة بينه وبين جماهيره التي من المفترض أنه يعمل من أجلها . لقد بسطت الأجهزة الأمنية امتداداتها على كل شيء، واضطر الناس إلى التأييد اللفظي خوفاً من التبعات، والخوف لا يمكن له أن يظل في القلوب وفي النفوس إلى الأبد . لقد فكّر الحزب نيابة عن جماهيره، ولم يستأنس باَرائها مطلقاً، اتجه نحو الصناعات الثقيلة وأهمل الصناعات الخفيفة التي تشكل احتياجاً أساسياً للناس . أهمل الحزب الحوافز للناس ، التي تشكل خلفية أساسية من أجل زيادة الانتاج، وفي هذا المجال لابد من القول وحتى نتحلى بالموضوعية: إن مساعدة الاتحاد السوفياتي للدول النامية كانت في معظمها مجانية، وفي جزئها الاَخر على شكل ديون طويلة الأمد، يجري سدادها على عشرات السنين وبفوائد بسيطة وهذا ما أثر على اقتصاده، فهناك فرق كبير بين مساعدات الولايات المتحدة للاَخرين، وبين مساعدة الاتحاد السوفياتي لهم، فالأولى تعطي مساعدات كبيرة لدول كثيرة، لكنها تمتص خيرات دولٍ كثيرة أيضاً. لقد أهمل الحزب الشيوعي السوفياتي المسألة الاقليمية في بنائه، فالتوافق الاقليمي وإذابة الفوارق بين القوميات (وقد كان الحزب يتغنى بذلك) لم يكن لها وجود على أراض الواقع، فالاختلاف بين القوميات كان على أشده. إن من أكبر الأخطاء التي وقع بها الاتحاد السوفياتي هو منع الناس من السفر إلى الخارج، مما جعل مواطنيه يعيشون داخل ستار حديدي يفرض عليهم . إن دولاً كثيرة استطاعت الوصول إلى مكاسب مجتمعية أكبر بكثير مما وصل إليه الاتحاد السوفياتي، من دون تبني الاشتراكية والماركسية، وهذه الدول هي رأسمالية حتى العظم. في مؤتمر الحزب الشيوعي، الذي انعقد في موسكو عشية الانهيار وكان ذلك في عام 1989 سمعت خطاباً للكاتب السوفياتي الكبير جنكيز ايتماتوف (وهو قرغيزي الأصل) وفيه قال بما معناه: انظروا إلى السويد والدانمارك، وفنلندا ، فيها من التأمينات لمواطنيها أكبر بكثير مما هو موجود لدينا، فمن أجل ماذا سنطبق الاشتراكية ؟ أمن أجل الوصول إلى ما وصلوا إليه وبعد سنوات كثيرة وهم رأسماليون حقيقيون ! دعونا نعيش على أرض الواقع. . . نراه كما هو، وليس بالعيون التي نحب أن نراها فيه سلباً أو إيجاباً. كلمته كانت بالفعل كلمة معبّرة ومؤثرة، وتشي بالجهد الذي بذل على مدى سبعين عاماً ثم تناثر شظايا في الهواء، هذا لا يقلل من حقيقة المكاسب التي حققتها الاشتراكية للناس على مدى وجودها في الاتحاد السوفياتي. في أغسطس من عام 1986، حضرت ليلى والولدان لزيارتي في مينسك بعد أن كنت قد نلت موافقة المعهد على زيارتهم، وتقدمت بطلب لاستخراج الإذن (بالفيزا) بالسماح بدخولهم، وبعد أن أرسلتها إليهم ليحضروها معهم، كان بدر يبلغ من العمر أربع سنوات وبشار ما يقارب التسعة أشهر، فرحت كثيراً بقدومهم في تلك الفترة التي تتميز بالطقس اللطيف، حيث الخضرة هي الطابع الغالب على مينسك، فالحدائق في مثل ذلك الوقت تفتح أبوابها حتى ساعة متأخرة من الليل، ومن بينها حديقة قريبة من السكن، كان بداخلها قسمُ للزهور. المساحات الخضراء بالنسبة لي هي عشق أزلي، تذكرني بمدينتي قلقيلية الخضراء (والتي هي الاَن تحت الاحتلال) هذه المدينة المشهورة بزراعة البرتقال والكلمنتينا والمندرينا والجوافة والخضار، قلقيلية بسهلها وجبلها حدائق متصلة بعضها ببعض ، تنظر من البعيد إليها فترى بيوتاً وسط حدائق . كنت قد استقبلتهم في مطار موسكو الدولي (شيرميتوفو1) وانتقلنا إلى مطار الرحلات الداخلية (شيرموتوفو 2) وهما يبعدان عن بعضهما عشرين كيلومتراً. نزلنا في مطار مينسك حوالي السادسة مساءً، كانت أشعة الشمس الغاربة تنعكس على أوراق الأشجار في السهول الشاسعة الممتدة حول المطار، فتعطي لوناً يميل إلى الحمرة، جميلاً في امتداداته وهو يسبح في فضاء تخللته بعض الغيوم وقد كسرت حدة الصيف في مينسك لتجعل منه خريفاً جميلاً في ألوان شجره . غادرنا إلى السكن، وكنت قد جهّزته بما تحتاجه العائلة القادمة من دمشق والتي تسكن في مخيم اليرموك، حيث لا شجر ولا خضرة في داخله، بل هو مملوءُ بمبان كثيرة متصلة أشبه بعُلnب . وكما أخبرتني زوجتي، فالحرارة بلغت في دمشق أربعين درجة مئوية قبل قدومهم، مع اغبرار مستمر في الجو، مما يعني أن أجواء مينسك بالنسبة لهم مثل مصيف جميل. يوجد في بيلوروسيا كثيرون من الفنانين المحليين في مختلف مجالات الفن، وكنت (بحكم اهتمامي) على علاقة طيبة بالكثير من الكتّاب، وعقدت مع كثيرين منهم لقاءات نشرتها في عدد من الصحف العربية، والملفت للنظر، أن الكتاب الذين كانوا ينتقدون الصهيونية، يضطرون إلى تغيير أرقام هواتفهم باستمرار، نظراً للتهديدات الكثيرة التي كانوا يتلقونها، وأعرف من هؤلاء: بيغون وسيمينيوك وطريقة التهديد وصولاً إلى القتل هي طريقة صهيونية في التعامل مع الكتّاب المنتقدين لها في الاتحاد السوفياتي، فقد سبق وأن جرى اغتيال الكاتب الروسي يوري ايفانوف، مؤلف كتاب (احذروا الصهيونية) على سريره في شقته في موسكو. . . ولم يتوصل التحقيق الذي جرى حينها إلى الفاعلين! رغم تقدم الأجهزة الأمنية السوفياتية حينها، وهذا يلقي بظلال كبيرة من الشك على مدى تغلغل الأجهزة الصهيونية في كافة مؤسسات الدولة في الاتحاد السوفياتي بما في ذلك في بيلوروسيا وبخاصة في الأجهزة الأمنية وكافة الأجهزة الأخرى، بما في ذلك، الأجهزة الإعلامية! كنا نحس بهذا الدور دون معرفة الجهات التي تقف وراءه، فبالفعل تكررت هذه الحادثة وكنت شاهداً عليها في موسكو في أواسط السبعينات وفي مينسك في نهاية الثمانينات، كانت تصدر بعض الكتب ضد الصهيونية. . . وفي اليوم التالي من معرفتي بذلك. . . أذهب لشراء نسخ منها. . . لأفاجأ. . . بأنها ليست موجودة! بل تم شراء كل نسخها في نفس اليوم. . . ولما استفسرت عن المسألة ؟ سألتني إحدى العاملات ونحن منزويان في بقعة جانبية: أحقاً لا تعرف السبب ؟ أحقاً لا تعرف أن اليهود يأتون لشراء كافة النسخ من هذه الكتب وفي نفس اليوم؟ استوعبت الأسباب حينها، فقد كنت أعزو ذلك سابقاً لاهتمام الناس بموضوع الكتب! وأذكر حادثة أخرى في عام 1978 وأثناء دراستي في موسكو، تعرفت على إحدى الباحثات المهتمات بالموضوع الصهيوني، ودعتني إلى دفاعها عن بحثها لنيل شهادة الدكتوراة وكان موضوعها حول التأثير الصهيوني على شعارات ورسوم في مؤسسات الدولة السوفياتية وأذكر كيف أوضحت وجود نجمة داود المرسومة بدقة وبدهاءٍ شديد على الكثير من الأوراق النقدية السوفياتية السابقة. . . وأوضحت أيضاً وجود الكثير من الرسوم الأخرى على شعارات للدولة. . . ضمن بحث علمي منهجي يتطرق إلى تغلغل فعلي للمنظمات الصهيونية في مؤسسات الدولة لجنة المناقشة كانت تتألف من 30 عضواً أكاديمياً مختصاً بموضوع البحث. . . ولكن للأسف وبنتيجة التصويت الأخيرة، فإن غالبية أعضاء اللجنة صوتوا بعدم موضوعية وعلمية بحثها، مع أنها من كبار الباحثين في الموضوع الصهيوني. الصحف السوفياتية: البرافدا والازفستيا وغيرهما كانت توزع في مدينة مينسك، إلا أنني لم أكن أهتم بالصحف المحلية البيلوروسية وهي قليلة وكانت تطبع باللغة الروسية وأهمها كانت صحيفة سوفياتسكيا بيلوروسيا (بيلوروسيا السوفياتية) والصحف كانت رخيصة إلى حدٍ كبير وبما قيمته (فلسين اثنين للصحيفة) ليس إلاّ. في مينسك توجد كنائس كثيرة، وخاصة في الجزء القديم من المدينة، الذي جرى ترميمه بعد الحرب العالمية الثانية، ويجري تصليحها باستمرار، وقد ذهبت مراراً لزيارة العديد منها في أيام الأحد، بهدف معرفة الحرية الدينية في بيلوروسيا الاشتراكية. . . كنت أجد بعض العاملين في الكنيسة ومصلين قلائل، أغلبهم من المتقدمين في العمر! حاولت أن أبحث عن السبب ؟ لكنني لم أعثر على سببٍ مقنع. . . فلا توجد قوانين سوفياتية تمنع الناس من ممارسة شعائرهم الدينية، لذلك كنت أتساءل: هل السبب يكمن في التثقيف الاشتراكي، الذي يتعامل مع الدين باعتباره أفيونا للشعوب أم هل السبب في أن الناس لا دينيين؟ كنت أميل في إجابتي لنفسي (ذلك أن الناس لم يكونوا ليخوضوا في هذه المسألة حين تسألهم! ) للمزج بين المسألتين في إعطاء الجواب، بالإضافة إلى عاملٍ اَخر هو الرعب والخوف الذاتي من الدولة فيما لو عرفت أن هذا الإنسان يذهب إلى الكنيسة وتداعيات ذلك على حاضره ومستقبله! القضاء في بيلوروسيا كان موجوداً للفصل في القضايا الحياتية، غير أنني لم أسمع عن قضايا سياسية حقوقية يتناولها هذا القضاء، فهذه كان يتعرض لها الحزب ومؤسساته التابعة، بشكل جعل منه هامشياً في حياة المواطنين . اللجان الحزبية والكومسومولية (الشباب الذي يجري تحضيره لدخول الحزب) منتشرة في المصانع وكافة المؤسسات الأخرى، وفي الجامعات وفي المدارس الثانوية وفي الأحياء، وفي المعاهد وفي المستشفيات وفي كل ما يخطر لك على بال، وتوصيات هذه اللجان التي تعقد اجتماعاتها شهرياً وكل ما دعت الحاجة إلى ذلك، تتفق وتتماهى في قراراتها مع قرارات اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي (الحزب الأم)، فلا خصوصيات لبيلوروسيا أو غيرها. . . فالقرارات مركزية يجري التهليل والتصفيق لها دوماً من المنظمات الأدنى، التي تهدف إلى تحويل قرارات الحزب إلى واقع فعلي وعملي، ونجاحات الحزب وخططه الإيجابية دائماً موجودة وتجري الاشادة بها. . . فالحزب هو الأب والأم والطريق إلى النجاح، لا توجد انتقادات لسياساته، فدائماً هو الصح، ولا مجال لأن يكون أحد قراراته خاطئاً. . . فالنقد غير مسموح به، والحزب يتدخل في كل شيء. . . حتى في التفاصيل الصغيرة لخطة معهد دراسي أو خطة إنتاجية لمصنع ما، فالذي يعارض هذه الخطة أو تلك، فهو بالضرورة يعارض الحزب، وبالتالي لا يعارض أحدا. . . حتى لو أراد أن ينتقد الجانب المهني للخطة، ولذلك فإن كافة قرارات اللجان الحزبية تأتي غالباً بإجماع الأصوات والحزب في توسّع دائم، فلا مجال للانحسار فيه مطلقاً. وصور لينين وماركس وانجلز، والأمين العام للحزب وأعضاء مكتبه السياسي تنتشر في المدن والقرى والأرياف، ويزيد عددها عشرات المرات في الاحتفالات الوطنية، مثل ذكرى ثورة اكتوبر الاشتراكية، وفي ذكرى الانتصار على النازية في 9 مايو من كل عام، وأثناء انعقاد مؤتمرات الحزب وغيرها من المناسبات. الجمهوريات الاشتراكية: هي جمهوريات الحزب الواحد، فلا وجود رسميا لقوى المعارضة أو أحزابها، وهي بلدان دكتاتورية البروليتاريا (الطبقة العاملة) والحزب الشيوعي في العادة يعتبر ممثلاً لهذه الطبقة، لذلك فإن هذه البلدان هي بلدان دكتاتورية الحزب الشيوعي. في بيلوروسيا، كان يقدر عدد الحزبين المنضويين تحت لواء الحزب الشيوعي بنصف مليون عضو، إلى جانب مليون كومسومولي من الشباب يجري إعدادهم وتدريبهم للانتساب للحزب. غالباً ما تكون أحزاب السلطة مرتعاً للمنتفعين والانتهازيين، فالحزب ليس هدفاً بحد ذاته على الرغم من التشدق بالإيمان بأيديولوجيته، بل هو وسيلة لتحسين الأوضاع المالية لهؤلاء، ولتحسين ظروف عملهم، ولإمكانية سفرهم للخارج في مهمات وللامتيازات الكبيرة والكثيرة التي يتمتع بها أعضاء الحزب، وبخاصة من يدخلون لجنته المركزية بصفة أعضاء أو أعضاء مراقبين، أو من يكونون على رأس المنظمات الحزبية في المدن والقرى وفي الأرياف أو أعضاء لجان الرقابة الحزبية. . . . فلهؤلاء مستشفى خاص جهّز بأحدث ما في العالم من تجهيزات ومعدات طبية، ولهم أسواق خاصة يذهبون إليها، ويتوفر فيها ما لا يتوفر في الأسواق والمحلات العادية من بضائع وسلع محلية بيلوروسية وأخرى مستوردة خصيصاً لتلك المحلات. في بيلوروسيا كانت توجد مؤسسات نقابية للعمال والفلاحين والطلاب والمعلمين وغيرهم من القطاعات المهنية، وهي غالباً ما تكون في مسيرتها وجهاً اَخر للّجان الحزبية، فمن يترشح إلى لجانها القيادية والإدارية هم الحزبيون والكمسوموليون، ومن يترشح خارج هذين الإطارين، لابد وأن يكون بترشيح منهما، وغالباً ما كان هؤلاء يستعملون كغطاء من أجل القول: إن في المواقع القيادية والإدارية للمؤسسات النقابية أعضاء غير حزبيين! لإضفاء نوع ما من الديمقراطية عليها، ولم يكن يوجد قوائم منافسة . التنظيمات التي كانت تعمل في بيلوروسيا خارج نطاق الحزب الشيوعي البيلوروسي- السوفيتي هي تنظيمات الطلاب الأجانب الذين يدرسون في الجامعات والمعاهد البيلوروسية، فغالباً ما يأتي هؤلاء بترشيح من تنظيمات شيوعية أجنبية (سواء أكانوا أعضاءً فيها أو كانوا أصدقاء أو أبناء وأقارب للأعضاء الحزبيين) صديقة للاتحاد السوفياتي، وفي السبعينيات والثمانينيات كان الاتحاد السوفياتي يعطي منحاً للحكومات الأجنبية، فطلبة هذه المنح كانوا غالباً ما يبتعدون عن ممارسة السياسة أو ينضوون في اتحادات طلابية رسمية تابعة لحكوماتهم ودولهم تنظيمات الطلبة الأجانب تعمل فقط في أوساطهم، أما إذا ارتأت عقد احتفالات في المدينة بمناسبة تأسيس الأحزاب أو التنظيمات التي تنتسب إليها، أو المناسبات الوطنية لدولهم، فهي بحاجة إلى إذن من اللجنة المحلية التابعة لمنظمة التضامن الاَفرو - اَسيوي والتي لها لجان في مختلف المدن التي يتواجد فيها الطلبة الأجانب غالباً ما تكون التنظيمات الطلابية الأجنبية وواجهاتها الرئيسية: اتحادات الطلبة، عرضةً لمراقبة الأجهزة الأمنية المحلية وعلى رأسها ال: كي. جي. بي المنظمة المشهورة والمنتشرة في كل البقاع والمناطق. الحياة السياسية لتنظيمات واتحادات الطلبة الفلسطينية والعربية، واتحادات الدول الأفريقية والأميركية - اللاتينية كانت تتمحور في الإطار المذكور سابقاً. وفي مينسك كان تتواجد أعداد من الطلبة كدارسين من الدول الاشتراكية الأخرى- ألمانيا الشرقية، بولندا، هنغاريا، رومانيا بلغاريا، كوبا، يوغوسلافيا، تشيكوسلوفاكيا، وهؤلاء الطلبة كانوا ينضوون في أحزاب أو اتحادات طلبة تابعة لبلدانهم، وغالباً ما يكونون ضمن اتفاقيات لتبادل دراسة الطلاب في دول المنظومة الاشتراكية. الدراسة في بيلوروسيا (مثل كل الجمهوريات الاشتراكية الأخرى) كانت مناسبة للتبادل الثقافي مع كل الشعوب الأخرى التي يتواجد أبناؤها للدراسة في المدن البيلوروسية، وهي أيضاً تشكل إطلالة على عادات ومشاكل الشعوب الأخرى عن قرب، وهذا لم يكن ليتوفر سوى في البلدان الاشتراكية قضينا معاً فترة تقارب الشهر والنصف، ترددنا خلالها على أماكن كثيرة في مينسك، وبخاصة الحدائق المملوءة بألعاب الأطفال: السيارات والقطارات، والعجلات الدائرة، والألعاب المختلفة، ولا أذكر في مينسك حديقة واحدة بقيت ولم نذهب إليها، كان الأبناء سعيدين، كنت أرى الراحة والاستمتاع في عيونهم وسافرنا في رحلات داخلية ممتعة إلي جمهوريات أخرى . كنا نقضي طيلة النهار في جولات، وفي المساء عندما ينامون، كنا نذهب إلى بعض المطاعم، بعد أن أعطي مفتاح الشقة للمناوبة على باب السكن لتطمئن عليهم بين فترة وأخرى، وكنت على اتصال تليفوني بها كل نصف ساعة تقريباً . كان بعض أصدقائي من الطلبة الفلسطينيين الدارسين في مينسك يتبرعون لأخذ الولدين في جولات داخل المدينة، اشتريت لبدر سيارة صغيرة كان يحب ركوبها دوماً، وخاصة الوقوف بها على جانب الطريق على الإشارات الحمراء، كان السائقون والماشون يتطلعون إليه بكل الحنان والحب، وكان بشار جالساً دوماً في عربته، صديقان أعتز بصداقتهما، وسأظل مديناً لهما بالشكر على ما أبدياه من مساعدة لنا وهما معتز وفرسان، فقد تصادقا وألفا بدر وبشار وكان يقضيان ساعات طويلة معهما، وفي كثير من الأحيان الجلوس معهما مساءً . وأذكر رحلة استمتعنا بها وهي رحلة على قارب صغير في نهر مينسك، وأذكر كم سعدا عندما ذهبنا جميعاً إلى السيرك، حيث الألعاب البهلوانية، وحيث ترقص الفيلة، وحيث الأسود المروضة . في البداية لابد من القول، إن الاتحاد السوفياتي قدم تضحيات كبيرة في الحرب العالمية الثانية، فقد قدم عشرين مليوناً من أبنائه أرواحهم في سبيل الحفاظ على استقلال وطنهم، وخلّفت الحرب ما يزيد على الثلاثين مليوناً من الجرحى، وبينهم ذوو إعاقات كبيرة ومستديمة لقد جرى تدمير معظم المصانع باستثناء تلك التي جرى نقلها إلى أماكن أخرى، لقد جرى تدمير مدن وقرى بأكملها، لقد تم حصار مدينة لينينغراد لمدة تطول عن ثلاث سنوات ولم تستسلم، وبقيت صامدة وعصية على النازيين لقد جرى توزيع الخبز بالبطاقات في هذه المدينة البطلة، وقد مات الاَلاف من الجوع في لينينغراد وغيرها من المدن التي جرى حصارها في متحف الحرب العالمية الثانية في لينينغراد (التي أعيد اسمها القديم إليها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وهو بطرسبورغ) يوجد دفتر صغير للمذكرات كتبته طفلة كانت تبلغ اثني عشر عاماً، كتبت في اليوم الأول مات بابا، في اليوم الثاني ماتت ماما، في اليوم الثالث مات أخي ساشا، في اليوم الرابع مات الكلب. . . . ومن بعد كتبت : أشعر أنني أموت. . . هذه القصة حقيقية ومن صميم الواقع، كانت تجسد معاناة المواطنين السوفيت من جراء الحرب لقد جرى سوق مئات الاَلاف من المواطنين السوفيت إلى المعتقلات النازية، البعض منهم جرت تصفيته، والبعض منهم جرى حرقه، واَخرون ماتوا جوعى أو نتيجة للمرض ، واَخرون كانوا عمّال سخرة لما تعمل القوات النازية على تشغيلهم به . على الرغم من الماَسي التي اقترفها ستالين في حق الاتحاد السوفياتي، لكن يسجّل له إصراره على الاستمرار في الحرب حتى اقتلاع النازية في عقر دارها، كما يسجل له أيضاً أنه لم يقبل بمبادلة ابنه الأسير لدى القوات النازية بالجنرال الألماني فان باولوس الذي كان أسيراً لدى القوات السوفياتية، وعندما جاء الوسيط ليقنعه بقبول الصفقة قال جملته المشهورة : وهل من العدل مبادلة جندي بجنرال ؟ وأعدم النازيون ابنه البكر. لقد أرّخ الكتّاب والصحفيون والمثقفون السوفيت للحرب العالمية الثانية في قصص واقعية كثيرة منها على سبيل المثال : كيف سقينا الفولاذ، وأبدع السينمائيون أفلاماً كثيرة منها: والفجر هادئُ هنا، وهي عن قصة قائد فصيل وبضع فتيات تحت إمرته، وسجل المخرج من خلال كاميرته لقطات حية تبين كيف قتلن وقتل هو أخيراً . ولعل قصة الطيار السوفياتي الذي أسقط الألمان طائرته بعد أن دمّر سرباً من طائراتهم، ووقع في غابة وظل فترة ثلاثة أسابيع يأكل الحشائش ويشرب من مياه الثلج، وكان مصاباً بإصابات بالغة في طرفيه السفليين تجسد هذه المعاناة، فقد عثر عليه بعض الجنود السوفيت وتم بتر طرفيه وعلاجه، وجرت إعادة تأهيله وعاد ليشارك في الحرب من خلال قيادته لطائرة جديدة بطرفين اصطناعيين وغيرها الكثير من القصص والحوادث الحقيقية وقبل انهيار الاتحاد السوفياتي، وفي التاسع من مايو (يوم الانتصار على النازية) من كل عام، وفي مكان محدد بالقرب من المتحف الوطني بمحاذاة الساحة الحمراء (قلب موسكو) يتجمع كثيرون من المشاركين في الحرب العالمية الثانية، وهم يحملون الأوسمة على صدورهم، ويلتقي من بقى من الأصدقاء القدامى على قيد الحياة بعضهم ببعض ، وكثيرون يبحثون عن اَخرين خدموا معاً في نفس الكتيبة على نفس الجبهة، وكثيرون من الاَباء والأمهات والزوجات والأشقاء والشقيقات والأبناء والأقارب يحملون صوراً لعديدين فقدوا في الحرب، وتحت الصور تكتب أسماؤهم وأرقام وحداتهم، وأسماء كتائبهم وغيرها من المعلومات. . . اَملين في أن يراها البعض ممن قد عرفوهم من أجل إعطاء أهاليهم وأقاربهم معلومات عنهم. كنت أحرص على الذهاب إلى هذا المكان سنوياً طيلة فترة دراستي الأولى في موسكو، ولطالما سجلت وكتبت عن قصصهم في بعض الصحف العربية. جمهورية بيلوروسيا، هي من أكثر جمهوريات الاتحاد السوفياتي التي قدمت تضحيات كبيرة في الحرب، فقد تم احتلالها بالكامل من قبل القوات النازية، وجرى تهديم غالبية مدنها وأبرزها العاصمة مينسك، فكما أشرنا سابقاً فإن 96% من أبنيتها جرى هدمها، كما دمرت المئات من القرى البيلوروسية في تلك الحرب من جمهورية بيلوروسيا انطلقت المقاومة الفدائية ضد النازيين، وهي المقاومة التي يطلق عليها حرب الأنصار ولذلك فإن حجم العدوان النازي عليها كان كبيراً وواسعاً، لقد جرى اعتقال عشرات الاَلاف من أبنائها من قبل المحتلين، ويقدر عدد الذين قتلوا من أبنائها في الحرب بمليون شخص (من بين ستة ملايين (وهو عدد سكان بيلوروسيا اَنذاك) أي أن تضحياتها كانت كبيرة، ولعلنا نختصر المعاناة البيلوروسية في الحرب من خلال إيراد مثال عن قرية بيلوروسية جرى حرق منازلها بمن يسكنونها |
No comments:
Post a Comment